مشهد 15


أطباعنا نحن البشر غريبة.. فعندما يقترب الحدث الذي أفنينا أنصاف أعمارنا أو حتى أعمارنا جميعها في انتظاره ، ويكاد أن يتفجّر من جوف الحقيقة والواقع، ماضياّ نحو الاكتمال واعتلاء منصّة التتويج.. نبدأ نحن بالتوتر ونظهر جميع علامات الخوف والقلق المعروف منها والمبتدع ! أين كل تلك التمنّيات وليال الدعاء الطوال؟! أين تلك الفرحة المختبئه في أعماقنا ؟! أين طقوس الامتنان والشكر؟!
-اختفت.. لا بل تبخرت وتحولت إلى سحاب مستعجل الرحيل!

فبعد أن اعترف لي بصريح العبارة بوجودي بين أضلعه  وفناء فكرة استبعادي عن مخيلته، أجدني حزينة يختلط بفؤادي شعور بأشباه الفرح..

نعم  عنَيّت ما قلته وليس بخطأ طباعة أو سوء تشكيل للجملة ،
ففرحتي بما قالهُ لي في آخر زيارة لهم كانت أشبه بحزنٍ يخالطه فرح لا العكس!
وأعلم ما يدور في أذهانكم الآن ..
 ولا، لست بجاحدة ولا بناقمة للفرحة،
 ولست بطاردةً للأفكار الجميلة الواعدة أيضاً !
أنا حائرة..!
 أشبه بروح ميت لم يصله خبر وفاته بعد، يجول بين أحبّته مستغرباً تجاهلهم لنداءاته اليتيمة..

فالقصة التي بدأتُ حياكتها منذ بداية لقائنا، غامضة.. خاصة .. صعبة
إلّا أنها جديدةُ بالكامل !
 أبعدتني عن حياتي السابقة التي كانت أقربُ للمثالية متّصفة بالملل والركود،
تعلّمت من خلالها كيفية جمع الحضور والغياب ..
كيفية إلغاءعُنصر التّضاد وجمع المترادفات،
تعلّمت كيفية تلقّي الخيبات والصدمات،
وكيفية ابتلاع الألم أتفههُ وأعظمه، بالخرس والأقنعة الباهتة

أظن أنّي مللت الحرص والتخفّي ، مللت  التحرك بخطوات ضيّقة وطول الانتظار
فمن منّا لا يخشى المجهول ويودُ لو أن المستقبل كلّه ثوابت مُسبقُ الإعلان عنها؟!
ولعلّ حزني هذا نابع من خوف المجهول،
 وفرحتي هي وليدة لحظة أمل وتمنّي..
ولهذا بدأ صباحي متشكيّاّ متملّلاً من لاشيء وكل شيء،

رأيتني أجلس على طاولة الطعام بقرب النافذة ، أتأمّل حديقة جارنا
أحرث فيها أفكاراّ شتّى ، أستعجل نبتها وأخشى أن تفوتني سحابة محملة بقطرات تسقيها !

رأيت طريق الحي يأكل بعضه بعضاً .. وأقول لنفسي " أتُراهُ كثير الإنحناءات لكبر عمره وثقل همومه ؟!"

أنظر عقارب الساعة فأراها تلتهمني بإيماءاتها الخبيثة وإشاراتها اللامتناهية  بفوات الأوان ومرور الزمن،

كنت أرغب بالهرب فعلاّ ولكني كالوتد في أرض لن تدوم، أدرك هذا ..
أُكمِلُ فنجان قهوتي الكبير الذي يساعدني قليلاً على ابتلاع شتات أفكاري ،
 أريد فقط الاستمتاع بمطالعة القادم والراحل فوق تلك الطريق المنهكة الكَهِلة ..
محاولةً الانصات بسذاجة لأحاديثهم الرمادية السامجة.

أُصدرُ تنهيدة طويلة عميقة .. يتخللها فكرة انتظاره دهراً ليأتي فيجدني قد خذلته باستنفاذ جميع سحري بعمق تفكيري السوْداويّ هذا..
سيُهلكني التوتر ويفتتني الخوف حتماً.. ولعلّني لن أقوى على استكمال رحلة الانتظار الطويلة هذه ،
فالعمر ماضٍ لا يشفع لأحد ...
...

لكن مهلاً !
كعادتي أرمي باللوم عليه هو فقط!
أتّهمه بسبب طول انتظاري وتشابك أفكاري،
وأتنصّلُ من أيّة مسؤولية متعمدةً تجاهل موضعي من القصة بأكملها..
أظنني أستحق مشقة الانتظار هذه !
فكلّما تقابلنا، وفي كل مرّة أراه فيها .. أرتدي ثوب الظلِّ والخرس
وكالعادة أرحل محمّلة بأثقال من الخيبة !
-        "خيبة ماذا يا غبيّة ؟! "

نطقَ بها عقلي الباطني أخيراً! وعادت أفكاري لملمة نفسها وجمع قواها لتوبيخي
- " أترجو الصحاري مطراً ولم ترسل للسماء بخراً ؟!"

حقاً! كيف لي التّرقُبُ والتّوقع دوماً ، دون المبادرة ولو مرة ؟!
لن أقول سوى..
اللعنة على مجتمعٍ يهين المرأة ويمحوها في المواقف الخطأ ، ويجعل منها كياناً متكبّراً ومتعالٍ في الأوقات الخطأ أيضاً !



Comments

Popular Posts