مشهد 8




يسهل علينا إعطاء النصائح لغيرنا وخط الكثير من وصفات العلاج ..
ولكن حين نمرض ، حين نقع في أمر ما .. يَصعب علينا التصرف  !
فـ كأننا لم نساعد أحداً قط.. لم نرسم لهم طرق النجاة يوماً..!
حينها نكون في جهلٍ عن ما يُحيط بنا ..نكون في حالة عُقم الأفكار والتصرف ..
عاجزين عن طلب أي عون في تنوير خُطانا .. من غير أنفسنا  !
 فكيف لنا أن نطلب العلاج من مرضانا !! ..
هذا هو وضعي الذي أعيشه حالياً ..
فلقد كنت المُساعدة السرية للكثير من العاشقين الجدد ..
أنور كلماتهم .. أرسم ضحكاتهم .. أجهز لهم ما لذّ وطاب من الكلِمات ..
لكن ..
كُنت خاوية الوصف .. فـــ أستعين بـــ عجزهم عن الكلام  !
كُنت خالية الكلمات .. فـ أسترق السمع إلى ما يجول بخاطرهم  !
فارغة الإحساس .. فـ اتنصت إلى دقات قلوبهم  !
كنت قلم يكتب .. ويكتب.. لا يحس ..ولا ينطق ..
يكتب بجنون .. وبالجنون فقط  !
لكن ماذا عساي الآن بفاعلة..؟!
أنا يا من كانت الكلمات لعبتي المفضلة .. الآن تخونني مبتعدة
أنا التي كانت تعيش داخل مكعب زجاجي معزول بشكل تام عن العالم
أرى من خلاله تحركات الجميع .. أرى طاقاتهم السلبية
مشاعرهم الدفينة .. ضحكاتهم الغريقة
أغرق.. أغرق داخل عالمي عاجزة عن خروجي منه طلباً للمساعدة
فمكعبي .. تنقصه منافذ الهروب..
..
سامحوني .. لعلكم نسيتم ما حدث معي مسبقاً..
فكل ما حدث أثار براكيني الدفينة..
لا زلت أتذكر ضحكاتهم معاً.. نظرتُها التي كادت تخترق حاجب قلبه
فقد رأيت محمد برفقة فتاة يبدو عليها بوادر الجمال..
دعونا نكتفي .. بكلمة " بوادر.."
كنت أشتعل حينها حنقاً .. لا من الموقف ذاته
بل من عجزي وجهلي بما كان يحدث بعيداً عني
آلاف التساؤلات التي كانت تؤرقني تلك الليلة .. تضاعفت إلى أضعاف ما كانت عليه
...
لكن  
هذه هي رسالة الحياة .. تهبك السر الوحيد الذي يسعدك
تهبك سراً يجعلك تجيد فهمها ..تجيد التمسك بها
لتصعقك دون سابق تحذير بأسرار أخرى .. تُظْلِم عالمك
..
مر على تلك الحادثة المبهمة .. أسبوعان وثلاث ليالي
لم أذق فيهما طعم النوم ولا هناء النهار
فعقلي لا ينفك عن تذكيري بإحداثيات كل ما رأته عيناي
سيرهما معاً جنباً إلى جنب..
تحرك شفاهما إثر أحاديثهما التي بدت مشوقة حد الابتسام الدائم..
آآه ليته فقط رآني .. ليشعر بلزوم تفسير الموقف أمامي
ليته فقط...
..
رنالدا.. رنالداآ !!
"في أي عالم تسرحين يا ابنتي ؟! ".. مَن هذا الذي يُؤرق تفكير حلوتي ؟؟
هذه أمي ..  أول من يلحظ هموم نظراتي وسهو أفكاري
سارعت بالبحث عن مبررٍ لشرودي الدائم ..
ثم أجبت وعيناي تنظران إلى أي زاوية في الغرفة غير تلك التي تشغرها أمي..
" آسفة كنت أفكر بماذا علي أن أرتدي لعشاء اليوم.."
نسيت أن أخبركم
فزميل أبي في العمل  يقيم عشاء على شرف حصوله على ترقية ..
لا أعرفه شخصياً لكن أمي أخبرتني بأني أعرف ابنته !
رأتني يوماً معها لكنها لا تذكر متى كان ذلك..
لا بأس .. ما يهمني هو أني أريد هذا اليوم أن يمضي بسلام
وجميلٌ أني أعرف ابنته .. لعلها  تذهب شيئاً من ملل هذه الليلة
..
تجهزنا وذهبنا تمام الساعة السابعة مساءاً
ها قد شارفنا على الوصول .. وها هو أبي يوزع  المهام على جنوده كعادته
رنالدا مهمتك هي الصمت والابتسام.. أجيبي إجابات مختصرة إذا ما سُئِلْتي شيئاً
أم رنالدا.. حبيبتي دعينا لا نتكلم عن الطبخ كثيراً فكلنا نعلم كم أنتي طبّاخة ماهرة ..
انتهى أبي من توزيع تكتيكاته العسكرية ..
لنخرج من السيارة متجهين نحو باب منزلهم لنجد صديق أبي منتظراً قدومنا هو وزوجته
كعادتنا نحن العرب .. سلامنا يطول ليأخذ ربع الساعة  وقوفاً على الباب..
منزلهم كان لطيفاً.. ألوانه هادئة وترتيب الأثاث يدل على الذوق الرفيع..
بدأ الجميع  يتبادلون الأحاديث وأنا في صمت ..
ترى أين هي ابنتهم التي أعرفها..؟
ما لبست أن أنتهي من جملة أفكاري.. حتى ظهرت فتاة ممسكه بصينيه العصير..
انتظرتها لتقترب مني أكثر كي أتعرف على أميرتنا..
وما إن اقتربت مني .. حتى ربط  لسان أفكاري.. !
إنها..
إنها تلك الفتاة التي أرقت عالمي ..
تلك التي كادت.. أم أنها نجحت بخطف نبض فؤادي..؟!
" ابتسمت لها اثر ترحيبها بي .."
كانت ابتسامة صفراء ..لا بل ابتسامة لا لون لها..!
يا إلآهي .. هل انتبهت أمي لذلك الموقف في الحديقة..؟!!
أتراها رأت نظراتي الحانقة الغاضبة .. فظنت أني اعرفها !
ما بها أفكاري تتعقد أكثر فأكثر ؟؟
مللت .. حقاً مللت
لا بأس .. الآن سيتضح لي من  تكون ..
انتظرت جلوسها لتُعرّفنا بنفسها .. لكن..!
استدارت وذهبت عائدة إلى المطبخ..
إلى أين..؟! .. عودي .. يا أنتي !!
أخذ عقلي بالصراخ  .. راجياً عودتها لأعرف من هي
انتظرت مستضيفينا.. لعلهم ينطقون بكلمة تعرفني بهويتها..
لكن عجباً ..!  الكل مشغول بأحاديث العمل ..
أخذت أنظر هاتفي .. أشغل نفسي .. أبدد تفكيري بشيء آخر
أم أني أردت مواراة دموعي التي كادت أن تنهمر
ثم لمحت أحداً قادم..
 رفعت رأسي لعلها هي عائدة.. فأغتم فرصتي وأسألها عن اسمها
أتعرف عليها..
كدت أختنق حيرةً..
لكني ذهلت لرؤيتي ..
 "محمد " ! ..
نظر إليّ الجميع.. "أتعرفين محمد ؟! "
ثم نظر إليّ والديَّ  بذهول أقرب منه إلى الغضب
تداركت الموقف بتفسيري أنه أخو صديقتي سارة ..
رأيته معها في حفل خطوبة ابنة عمِّكَ أبي أتذْكُر ؟؟
" آه نعم ".. أجابني بذهول أيضاً..
يا إلآهي .. أي موقف غبيٍ هذا ..
ابتسم هو ..ثم  أجاب بـ " نعم هي من ساعدتني على إيجاد سارة تلك الليلة .."
ثم دَخَلَت وراؤه " مجهولة الهوية تلك "..
 ألاحت أُمِّه بيدها معرِّفةً .." ابنتي سعاد" ..
أكره المواقف التي لها القوه العظمى في تغيير ملامحي..
فقد ارتسمت ابتسامة لا يعلم بها أحد ..كأنها فرحة سجين بالبراءة..
لم يلحظ ذلك التحوّل أحد غيره هوَ..
لعله يوماً يعلم بقصتها..
أكملنا الليلة بالابتسام خلسة..
لم أشهد قبلاً مثيلاً  للفرحة التي تعتريني الآن..
ودعناهم شاكرين حسن ضيافتهم .. وودعته أنا شاكرة لصلة الدم تلك ..
وشاكرة الأقدار .. التي يوماً عن يوم تزيد قربي منه هو ..
هو وحده..

Popular Posts