مشهد 6




غريبة هي أحوالنا .. والأغرب منها هي تلك القوى العظيمة الكامنة فيها
تحكمنا ظروفها ومواقفها محركة خيوطنا كدمى.. تسيرها كيفما شاءت
من لحظات تجعلنا نقفز فرحا.. نتكلم مبتسمين مازحين ..
إلى لحظات تغص بها أعيننا بدمعة حارة.. تفقدنا توازن كلماتنا..
فلا نجد أنفسنا إلا متوارين عن أنظار الجميع .. محاولين إخفاء أنفسنا المتقلبة ..!
فبأي حق يحدث لنا كل هذا ..؟! وبأي سلطة تحكمنا تلك المواقف والأحداث..؟!
وما هي إلا لحظة ضعف..!
لحظة تأمل .. تمهد لخيبة أمل تصنعها عقولنا ..
تشكلها أفكارنا السلبية ..
تماماً كما أفعل الآن..
إنها الساعة الرابعة والربع عصراً..
وها هي الشمس تعبر أشعتها زجاج نافذتي دون أي استئذان..
تماما كما يفعل الحب بقلوبنا..
يجعلها تتمرد على عقولنا .. متناسية أن ليس لها من وظيفة سوى ضخ الدم
قاطعه عنا الأوكسجين .. فنشعر باختناق دائم..
آآه .. ليتك تفهم يا قلبي ..! .. ليتك تكف عن إتعابي بالاشتياق إليه..
وآآه من عيناآه .. ليتها تكف عن البريق وسط حشود الناس كاشفة ضعفي..
إنني أتكلم عن أمسية البارحة ،، فقد كنا مدعوّون إلى خطبة ابنه إحدى أقربائنا
نعم ! كان بإمكاني القول " قريبتي" عوضا عن إدخالكم بمتاهات علي بابا !
لكني لم أعرفها قبل الأمس..! فأي قرابة هذه..؟؟!
دعونا لا نضيع محور حديثنا ..
كان هناك !
لمحته عيناي فور دخولنا باب مدخلهم..
كان وسط جمع من الرجال يتحدثون ويضحكون على لا أدري ماذا..!
لكن ليست بضحكاتهم ولا محور حديثهم ما شد فضول نظراتي الخجلة..
بل هي ابتسامته التي لم ترتسم إلا لرؤيتي..
وكأن ابتساماته السابقة لم تكن سوى مجامله لهم..
قابلني بنظرات ترحيب وكأنه يعلم بمجيئي مسبقاً..!
قطعت تلك اللحظات .. ابنه عمي " عائشة " منادية إيايّ..
" رنالداااآ.." ما الذي أخر مجيئكم ؟؟! ..
متبعةً بـ.." لا يهم الفتيات جالسات في الصالة الداخلية .."
" يا إلاهي لم تكتمل فرحتي ..! ... إنني حتى لم ألحظ لون رباطة عنقه !! "
ماذا.! ؟ .. توقفت عائشة ناظرة إليّ بدهشة..؟
" عما تتحدثين..؟!"
.. يالَ غبائي !! .. لم ألحظ أني كنت أفكر بصوت عالٍ..!
ابتسمتُ بخفة .... قائلة : " كنت أقصد العريس ..!"
ضحكت عائشة وأكملنا سيرنا ..
هذه الضوضاء العالية جعلتني لا أميز بين صوت أفكاري وصوت كلمات لساني !!
سلمت على الجميع وسمعت الأسطوانة المعهودة..
" كيف الجامعة يا رنالدا..؟؟ .. شدي الهمة نريد أن نفرح بك قريباً.."
أُتبعها كعادتي بابتسامة وعبارة محفوظة عن ظهر قلب " دراستي أولا ً .."
ثم بدأت ابحث بنظراتي عن مقر صديقاتي .. كاشفه عنه ضحكاتهم..
لا أخفيكم سراً.. إنهن يضحكن عليّ .. فذلك المشهد الذي حدث فور دخولي محفوظ لديهن بالنقاط وحركات السكون !
" حسناً كفاكنّ ضحكاً عليّ .. فأنتن لستن ببعيدات عن ذلك أيضاً.."
" رنالدا" هذه ساره جارة العروس ..
" كانت هذه آية صديقتي تعرفني بفتاة جالسة معنا.."
ابتسمت لها وسلمت مرة أخرى.." تشرفت، وأنا رنالدا صديقة آية وابن عم عائشة "
أحسست بأنها مألوفة لدي.. وكأني أعرفها..!
بعد لحظات من الضحك والكلام والنظر إلى حشد النساء وتفصيلهن تفصيلاً .. كعادتنا نحن البنات
لا أنكر أني منهن .. رغم أني أجري بعض التعديلات على صفاتي غير الحميدة .. لعلي أتخلص منهم قريباً
من يدري..؟!!
كان الكل فرحاً وأنا أصطنعه..
فأنا لم أستطع أن أقول "مرحبا" .. حتى ولو في داخلي.. فلربما أحست بترحيبي روحه..
قريباً كل القرب مني .. وبعيدة كل البعد عن محادثة روحه..
ليت هذا الضجيج يتوقف للحظة.. لكي تتمكن أفكاري من التسلل إلى جوف أفكاره..!
حقاّ يا لي من حالمة..!
قُطِعت أفكاري مرة أخرى بتساؤل من عائشة..
" رنالدا أتستطيعين مرافقة سارة ؟.. تريد محادثة أخيها وخجلة من الذهاب وحدها.."
مم حسنا لا بأس .. أجبت بعد لحظة تفكير بـ " لمَ أنا ؟! "
لكني لم أجادل ورافقتها مبتسمة ..
كنت أحاول أنا أيضا البحث عن أحدٍ ما..
وكلكم بالطبع تعرفون عن من أبحث بالتحديد..!
رأيته .." محمد"..!
يا إلهي.. فعلتها مرة أخرى .. وتحدثت بصوت عالٍ!!
لكن لا !
انتظروا !
هذه المرة لم أكن أنا بل كانت ساره هي من نطق بأفكاري عالياً..
" رنالدا" وجدت أخي محمد.. ها هو متجه نحونا ..
بدأت دقات قلبي تتسارع .. تعلو صوت دقات موسيقى الأغاني
وضعت يدي على قلبي محاول إخفاضها..!
ابتعدت بضعة خطوات تاركه لها المجال لمحادثته على إنفراد..
يالَ سذاجتي..! كيف لي أن لا أربط الشبه بينهما !!
الدهشة رسمت على وجهي بطريقة ملحوظة ..
" أيعقل أني كنت جالسة كل ذلك الوقت مع شقيقته ؟!! "
رفعت رأسي لأرى ساره متجهة إليّ .. وهو ينظرني بنظرات لم أعرف معناها تلك اللحظة..
" شكرا لك على مرافقتي .. إننا مضطرين للمغادرة الآن فأمي متعبة في المنزل ولم نرد رفض دعوه جيراننا.."
سلمت عليّ سلاماً أخيرا .. ولوّحت بيدها مودعه.. " أراكِ قريباً.."
مشت هي أولا وقبل أن تتبعها خطواته.. لوح لي هو الآخر
حينها قرأت شفتاه تقولان لي .." كوني بخير.."
ودت عيناي لو تدمع ما بها من حيرة مشتاق..
لكن ماذا لو أحد رآني..!
لملمت حزني داخلاّ وابتسمت للجمع عائدة لصديقاتي..
حقاً لا أذكر شيئا مما حدث بعد ذلك من أمسية البارحة ..
كان كل تفكيري مشغول به..
" اهو حقاً بخير..؟!"
كأن في عيناه شيئا ود لو يخبرني به..
أحسست بذلك.. أحسست بسيل كلمات تخرج من عيناه ..
بعثر حروف ذلك السيل ضجيج ضحكاتهم ..
عجبا كيف لي أن لا ابتسم وسط حشدِ من الطرفات والإبتسامات
لكن هذا حالي حتى قبل حادثة ليلة الأمس..
فقد أصبحت أخشى فقدانه..
فقدان ما هو ليس بلي..
سرب من الأفكار المحبطة .. تتلبسني..
لعلها تزول ببعضٍ من التفاؤل ..
لعلها تزول..
"رنالدا.. الغداء جاهز يا ابنتي "
هذه أمي..
أستسمحكم عذرا ، عليّ الذهاب
أراكم قريبا..

Popular Posts